حرب دولية في السودان… هل من سياسة “الباب المفتوح”؟
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
قال نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، مالك عقار، في جلسة نقاشية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في القاهرة، العام الماضي (2023) “إذا انهار السودان في الصباح، ستنهار الدول المجاورة في الليل”. لا يطلق عقار العبارة عبثاً، بل عن دراسة توضيحية لموقع السودان في الصراع الدولي الحاصل، وتحذيريةً في الوقت نفسه من أن انهيار هذا البلد سينعكس “فوضوياً” على دول الجوار. لهذا يُستنتَج مما قاله بأنّ “قلب العالم” قد رحل نحو السودان، فهذا ما يبرّر تخطّي الصراع حدود السودان ليرتبط بالصراع العالمي القائم بين القوة الصاعدة المتمثلة في روسيا والصين والدول الفارضة، في مقدّمتها الولايات المتحدة.
وضع عالِم الجغرافيا، هالفورد جون ماكندر، أحد مؤسّسي “الجيوبوليتك”، وهو العِلم الذي يفسّر العلاقات الدولية على أساس الموقع الجغرافي لمختلف البلدان، نظريته حول “قلب العالم”، معتبراً “أن من يهيمن على قلب العالم يسيطر على العالم”. عدّل ماكندر نظريته مراراً، خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا ليس بمستغرب، لأنّ مفهوم “قلب العالم” قد يختلف طالما أنّ العالم لا يعيش في ثبات، بل هو في حركية دائمة. وطالما أنّ الاهتمامات الدولية تؤكّد أن البشرية لم تزل تحدّد، لا بل تجدّد أولوياتها، حول الطاقة ومصادرها. مع اكتشاف الفحم الحجري مصدرَ طاقةٍ للآلة البخارية، على سبيل المثال، شكّلت الصين، التي تختزن أرضها تلك الطاقة، محور استقطاب للدول، فانتهى بها المطاف إلى سياسة “الباب المفتوح” (بيان المبادئ) عام 1899، مبادرة أطلقتها واشنطن بهدف تأمين امتيازات متساوية بين الدول. لكنّ اليوم بدأ الطلب على الفحم الحجري بالانحدار بسبب مساهمته الكبيرة في الاحتباس الحراري العالمي، والتسبّب في المشكلات البيئية. في المقابل، ارتفع الطلب على الطاقة والمعادن، لا سيّما النفط والغاز الطبيعي والذهب. لهذا تبدّلت حسابات الدول واتجهت نحو الدول المصدّرة لها، فكانت أرض السودان، التي تختزن هذه الطاقة، إضافة إلى الذهب ومعادن أخرى، وتتمتّع بموقعٍ استراتيجيٍّ في القارّة التي تستقطب اليوم اهتماماً دولياً، وهي القارّة السمراء، فهل ستُفرض على السودان سياسة “الباب المفتوح”؟
لا يمكن اختصار الحرب في إطار مغلق بين فريقَين يسعيان إلى السلطة، بل تشظّت الحرب هناك، ودوّلت بعدما جعلتها الدول نقطةً محوريةً لتحركّاتها
أكّدت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية عام 2010، في تقرير لها، أن احتياطي السودان من النفط المؤكّد يبلغ 6.8 مليارات برميل، وهو بهذا يحتلّ الرقم 20 في العالم، بينما يبلغ احتياطه المؤكّد من الغاز الطبيعي للعام ذاته مليار متر مكعّب. قد تكون الطاقة قوةً جاذبةً للصراعات الحاصلة في السودان اليوم، لكنّها ليست الوحيدة، فأرض السودان تكتسب أهميتها من الموقع الجغرافي بوقوعها في الزاوية الشمالية الشرقية من أفريقيا، ويُعدّ بوابةً للصحراء الكُبرى ومنطقة الساحل وقرن أفريقيا.
السودان يتخبّط بحرب بدأت منذ إبريل/نيسان 2023، بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتّاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (نائبه سابقاً)، واتُّهم الطرفان بارتكاب جرائم حرب. ولا يمكن اختصار الحرب في إطار مغلق بين فريقَين يسعيان إلى السلطة، بل تشظّت الحرب هناك، ودوّلت بعدما جعلتها الدول نقطةً محوريةً لتحركّاتها لأهداف ترتبط بطموحاتها في هذه البقعة من العالم.
تعتبر روسيا أن تمركزها في السودان سيتيح لها دخولاً سهلاً إلى ليبيا والقرن الأفريقي
استخدام روسيا حقّ النقض (فيتو)، في 18 من الشهر الماضي (نوفمبر/تشرين الثاني)، لإسقاط مشروع بريطاني في مجلس الأمن، يدعو إلى وقف فوري للأعمال العدائية في السودان وحماية المدنيين من النزاع الذي يمزّق البلد، أعاد القضية إلى الواجهة. لم تلعب إدارة الرئيس المنتهية صلاحيته جو بايدن لفرملة الحرب السودانية، لا بل على إذكائها بين المتحاربين. فالأميركي أراد نشر الفوضى في ذلك البلد، الذي تعمل حكومته لتفعيل التقارب مع روسيا، لهذا كان الترحيب السوداني بالفيتو، لأنّها اعتبرت المشروع البريطاني المقدّم يفتح الباب لتدخّل قوات أممية في السودان. هذا ما تعتبره انتقاصاً من سيادة الدولة وشرعية الحكومة، وإعادة مليشيا “الدعم السريع” وجناحها السياسي إلى المشهد مرّة أخرى.
عبّرت روسيا عن أن المشروع الذي رفضته بخصوص السودان مفخّخ، ويفتح الباب لتدخّل قوات أممية في البلاد. دافع مساعد السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي عن قرار بلاده بأن موسكو كانت تأمل في وقف لإطلاق النار يتّفق عليه الطرفان المتحاربان، واتّهم البريطانيين بأنهم لم يشيروا خلال المفاوضات إلى “السلطات الشرعية للسودان”. رفضت روسيا القرار البريطاني الذي تجد فيه ضرباً لمصالحها في هذا البلد، وفي القارّة السمراء عموماً، فموسكو والخرطوم وقعّتا في 2019 اتفاق تعاون عسكري مدّته سبع سنوات يسمح بدخول السفن الحربية والطائرات الروسية إلى السودان، بعدما كان الدور الروسي سابقاً يعتبر هامشياً في هذا البلد.
تصر إيران على دخول الساحة السودانية لأنها يمكن أن تشكّل عقدة أخرى في شبكة وكلائها
تعتبر روسيا أن تمركزها في السودان سيتيح لها دخولاً سهلاً إلى ليبيا والقرن الأفريقي. لهذا، ترى أهميةً في تغيّر ميزان القوى في البحر الأحمر بطرق مختلفة، إذ يمكن أن يهدّد وجود قاعدة روسية المصالح الغربية، بالإضافة إلى تسهيل التعاون بين روسيا وإيران. لا يتوقّف الحضور الروسي على تقويض الحضور الغربي، بل تعمل جماعاتها الموالية لها على تعدين الذهب، إذ أكّد مسؤولون سودانيون أن عائدات صادرات الذهب تحقّق سنوياً ما يفوق سبعة مليارات دولار. فروسيا اليوم تحتاج للوصول إلى مصادر هذه الثروة في سبيل إعادة مكانة الذهب معياراً للتبادل التجاري بين الدول بدل الدولار الذي تستخدمه واشنطن وسيلةً عقابيةً.
وطلبت إيران إنشاء قاعدة بحرية في ساحل السودان، وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، رغم أن القوات المسلحة السودانية تقول إنّها رفضت الطلب، إلا أنها قد توافق عليه إذا وصلت مرحلةً من اليأس وعدم التوصّل إلى تسوية. تصر إيران على دخول الساحة السودانية لأنها يمكن أن تشكّل عقدة أخرى في شبكة وكلائها. ويعبّر المسؤولون الأميركيون عن قلقهم من أن الحوثيين وحركة الشباب الإسلامي (جماعة جهادية في الصومال) قد ناقشوا التعاون فيما بينهم، وسيزداد قلقهم إذ انضمّت الجماعات الإسلامية السودانية إلى هذا التعاون.
سيشكل انهيار السودان على نحو فوضوي خطراً كبيراً على البحر الأحمر، وإن أصبح دولةً فاشلةً، فلن يتوقّف عدم استقراره عند حدوده المائية، فالساحة السودانية دخلت مرحلةَ إعادة ترتيب النظام العالمي بين القائم والمتغيّر، على اعتبار أن أيَّ انتصار لأحد الفرقاء المتقاتلين سيحدّد مصير المنطقة، والقارّة على حدّ السواء.